السبت، ١ ديسمبر ٢٠٠٧

شنغهاى أجمل مدينة فى الصين

شنغهاى أجمل مدينة فى الصين


رفعت المذيعة شريط الاسطوانات الموسيقية عن الميكروفون ، وأعلنت بصوت فيه رنة الزهو " إن القطار يدخل الآن حدود شنغهاى " فنظرت من النافذة ، ورأيت الأنوار الساطعة من النوافذ البلورية ، والعمارات تناطح السحاب ، والشوارع تلمع كحجر الجرانيت المصقول ، والأشجار تسقط عليها أضواء المصابيح الزرقاء فتبدو للمشاهد عن بعد كأنها عرائس الكرنفال .. رأيت هذا ، فعرفت أنى داخل مدينة ليست كمدن الصين ، وأدركت السبب فى زهو الفتاة ..

إن شنغهاى مدينة عديمة النظير ، إنها تتلألأ بالثريات وأنوار النيون القوية ، وكل مدن الصين ضعيفة الإضاءة حتى بكين العاصمة ..

وعندما يتهادى القطار تسبح فى بحر لجى على الضفتين ، وتحار عيناك أتنظر عن يمين أم عن شمال ..؟ فإن الجمال متساو فى الحالتين ، ويظل القطار خمس عشرة دقيقة يشق قلب المدينة فى رفق ، ويلامس وجناتها فى حنان ، ويصافح عماراتها الشاهقة ، ويحيى سكانها بالصفير ، ثم يقف على الرصيف المسقوف ، وقد أطفأ نور الكشاف ، وأغلق كل الصمامات ، فإنها آخر جولاته فى هذا الليل ..

وتخرج من المحطة وتدخل شنغهاى ..

شنغهاى المدينة ذات الفخامة ، إن شنغهاى أكبر مدن الصين قاطبة .. مساحتها 630 كيلو متر مربع ، وعدد سكانها 000و800و6 مليون نفس سبعهم من عمال المصانع ..

إن بها 000و980 (حوالى مليون ) عامل يشتغلون فى ستة عشر ألف مصنع ، وإذا نظرت من طوابق الفندق العليا فى النهار ترى مداخن المصانع السابقة ترسل الدخان المتصل إلى أجواز الفضاء ، ويخيل إليك من كثرتها أن بالحى الواحد أكثر من ألف مصنع ..

إنها مدينة الصناعة والعمل ، وأضخم مدن الصين قاطبة ، وأعظمها حركة وتجارة ، وأنها تتبادل التجارة مع ثمانين دولة ..

وعمدة شنغهاى هو نائب رئيس الوزراء ..

وكانت المدينة ذات الفخامة محتلة بالإنجليز والفرنسيين واليابانيين ولا تزال هناك بعض آثارهم ..

وفى 25 من مايو عام 1949 دخل جيش التحرير الصينى ضواحى شنغهاى ، وهز معاقلها ثم دك حصونها ، وفى 28 من مايو تحررت كل شنغهاى ..

وقد تحولت كل أندية المحتلين ومواخيرهم إلى ملاعب ومسارح للشعب ، فنادى سباق الطلاب الذى بناه الفرنسيين أصبح مسرحا يسع أكثر من ثلاثين ألف متفرج للحفلات الموسيقية الكبرى والمحاضرات ..

ونادى سباق الخيل الذى أقامه الإنجليز أصبح ميدانا عاما للشعب ، ومنه يطل الرئيس ماو على الجماهير ويخطب ..

وأندية القمار تحولت إلى مراكز للثقافة والمعرفة ..

وكانت المدينة ذات الجمال وكرا رهيبا للعصابات ، العصابات الدامية التى تعيش تحت الأرض ، وفوق الأرض ، كما كانت مسرحا متصل الحلقات لحوادث السرقة بالاكراه ..

إذا سرت فى الشارع ، كان ينقض عليك اللص فى الظلام ، كما كان ينقض الصقر على الفريسة وينفضها نفضا ..

كان بها ستة آلاف متشرد ولص يجتمعون فى قلب المدينة كأنه فيلق مدرع ..

وكانت وكرا للشيطان والفسق وكل أنواع الفجور ، ومرتعا لبنات الليل من كل الأجناس ..

وكانت غاصة بالحانات والملاهى والمواخير التى لايحلم بوجودها الشيطان نفسه ..

وكانت مركزا مهما لتجارة الأفيون واستمرت على ذلك مائة سنة كاملة ..

وقد تطهرت شنغهاى من هذا كله بعد أن تحررت الصين من الاستعمار ..

والمدينة التى كان يقع بها 12 ألف حادث سرقة فى العام أيام الاحتلال وقع بها فى عام 1954 أربع حوادث سرقة فقط ..

***

وأصبحت المدينة ذات الجمال أعظم مراكز الثقافة والمعرفة فى الصين .. إن بها الآن 20 جامعة ومدرسة عالية ..

وبها 46 سينما و 73 مسرحا منها 3 مسارح كبيرة تعد من أكبر مسارح العالم ..

وبشنغهاى 117 فرقة أوبرا أشهرها عشر فرق : ثلاث منها ينج شو أوبرا ، وأنهيو أوبرا ، وشنغهاى أوبرا تعد من أعظم وأشهر الفرق فى الصين ..

والجمهور فى شنغهاى يعشق السينما والمسارح والأوبرات ويتردد عليها يوميا وتجد هذه الدور مزدحمة ، والناس تقف أمامها فى طوابير ..

***

ويدخل نهر هوانج بو شنغهاى من الجنوب ..

ويشق نهر سوشو قلب المدينة من الغرب إلى الشرق ، وفى النهر تسير البواخر الضخمة محملة بالبضائع ، وتسير لانشات الركاب من ضفة إلى ضفة ، وتسير زوارق الصيادين بالشراع الصينى الحالم ..

وتسير أنت بقدميك على كورنيش طويل ، طوله 108 كيلو مترات ، إنها مدينة الفخامة ..

وبشنغهاى مجلس الشعب ..

وعاش فيها الرجال الذين يحكمون الصين الآن ، عاش فيها ماوتسى تونج ، وعاش فيها شواين لاى ، وعاش فيها كاتب الصين لوسون ومات فدفن فى حديقة " هنجو بارك " وهى الحديقة التى كان يتنزه فيها ..

وعاش فيها الزعيم السياسى الدكتور صن يات صن ، وبيته هناك لايزال كما تركه بأثاثه وكتبه ..

وبشنغهاى كل نقابات الصين ..

نقابة الصحفيين ، ونقابة الأدباء ، ونقابة الموسيقيين ، ونقابة الممثلين فى الأوبرا ..

وبها ثلاث جرائد يومية صباحية كبيرة : جريدة الحرية .. و جريدة الأخبار .. و جريدة العمال .. و جريدة مسائية واحدة ..

وبها أكثر من 50 مجلة ..

والصحافى فى شنغهاى وفى الصين كلها ليست متقدمة فى الاخراج والطبع والتوزيع .. إذا قارنتها بالصحافة فى الهند واليابان ..

ففى شنغهاى جريدة كبيرة للأخبار والثقافة وتصدر فى 4 صفحات فقط ، وتزاد فى المناسبات إلى ثمانية ، ولا توزع أكثر من مائة ألف نسخة يوزعها الصبيان فى الصباح المبكر على البيوت ، ولا يوجد " سريحة " لبيع الصحف فى الصين ..

وقد كانت جريدة ون هين ديلى تخصص كل صفحاتها فى أيام معركة السويس لمصر ..

وقد رأيت فى صفحاتها صور المعركة برسوم الفنانين الصينيين ، وأكثر من صورة للرئيس جمال فى عدة مناسبات ..

***

وما أكثر المكتبات العامة فى شنغهاى :
مكتبة الشعب ، ومكتبة شنغهاى ، ومكتبة الآداب ، ثم مكتبة التاريخ ، وبكل ضاحية فى شنغهاى مكتبة ، وقاعات المطالعة كثيرة ، والجمهور الصينى يعشق القراءة ، تراه يقرأ فى الترام ، وفى القطار ، وفى الحدائق ..

ولا تزال هناك أمية كبيرة فى الصين ، أمية فى دولة تعدادها ستمائة مليون ، وهم يحاولون محوها بكل الوسائل ..

وإذا خرجت من الفندق إلى الشارع تجد شوارع شنغهاى غاصة بالرائحين والغادين والحركة متصلة وشديدة ..

وتجد رجال شنغهاى يرتدون البنطلونات السمراء والسترات المضمومة إلى العنق ، لباسهم واحد ..

أما المرأة فهى ليست موحدة الزى كما تراها فى بكين :
بعض النساء يرتدى الجونلة والصديرى الصوف ، والجونلة والجاكت ، والبنطلون الأسمر والرمادى والصديرى الصوف الأزرق والأبيض ..

والغالبية ترتدى الملابس الشعبية التى يرتديها الرجل :
البنطلون والسترة السمراء المضمومة إلى العنق ..

ولا توجد امرأة فى شنغهاى ترتدى الثوب المشقوق الجيوب الذى يبرز الفخذين ، لاتشاهد الزى الذى تلبسه المرأة فى هونج كونج ، ولا تشاهد من جسم المرأة أكثر من وجهها وشعرها ..

والجمهور يسير بسرعة على الرصيف ويقف طوابير فى انتظار السيارات والعربات والترام والتروللى باس ، ويركب الدراجات بكثرة فإنها وسيلة سهلة ورخيصة للانتقال ..

وعربة الركشا فى شنغهاى تتحرك بالعجلة ، ولا يجرها إنسان ، ولا توجد سيارات خاصة ، ندر أن تشاهد سيارة خاصة ..

وإذا دخلت فى غمار الناس وانتظرت معهم السيارة والترام على المحطة وجدتهم يقفون فى صمت وصبر ، وكل فى مكانه من الطابور ..

وإذا ركبت السيارة أو الترام أو عربة الركشا ، أو سرت على قدميك فأنت تتحرك فى شبكة متصلة من الشوارع الرئيسية ..

إذا تركت الضواحى جانبا وكنت تريد قلب المدينة لتشاهد المارة أو ترى الحوانيت ، أو كنت تريد أن تتسوق ، فأنت تسير فى شارع ين آن شنج ، وشارع ماونج ، ثم شارع شى من ، ثم شارع نانكنج ، وشارع تسانج شنج ، ثم ميدان الشعب ، وشارع فوشو ، وشارع ين آن تنج ..

وكل هذه الشوارع نظيفة وأرضها مصقولة كالرخام ، والحوانيت فيها على الصفين تعرض أحسن ما فيها فى " الفترينة " وهذا العرض الخارجى المتفنن لاتراه إلا فى شنغهاى ، فإن واجهة الحوانيت فى المدن الصينية الأخرى قاتمة وكئيبة ..

والجمهور فى الشوارع يتحرك بسرعة عجيبة ، كل فى شأنه ، ولا تجد على الرصيف متسولا أو متسكعا ، أو شخصا ممزق الثوب ، أو امرأة تبرز مفاتنها لتصيد الرجال ، أو قوادا يقودك إلى ماخور ، لاتجد هذا فى شنغهاى ، ولا تشاهد جندى البوليس فى الشارع ، الذى تراه فقط هو شرطى المرور ..

وإذا وقعت حادثة يظهر جندى البوليس بعد دقيقة واحدة ، ولا تدرى أخرج من بطن الأرض أم هبط عليك من السماء ..

ومعظم المبانى والبيوت فى شنغهاى ذات طراز أوربى ، والعمارات ترتفع من تسعة طوابق إلى أربعة عشر طابقا ..

وأعلى عمارة فى شنغهاى من 24 طابقا ..

والأرقام على البيوت بالحروف اللاتينية ، أما اللافتات على المتاجر والحوانيت فكلها بالحروف الصينية ..

وتجد فى شوارع شنغهاى المطاعم الصغيرة بكثرة ، وتجد القدور تغلى فى المدخل والبخار يتصاعد من الحساء ، والأرز ، والسمك ، والجمبرى ، وكل أنواع اللحوم موضوعة فى صحاف كبيرة بجانب المدخل ..

والطباخ الصينى فى المطعم الشعبى الصغير ، وفى أفخم وأكبر الفنادق يرتدى سترة بيضاء ناصعة البياض ، وهو نظيف أنيق ، ويداه تتحرك بسرعة مذهلة ، إنه أعظم طباخ فى العالم ، إنه يصنع لك أربعة آلاف صنف من الطعام ..

وهو فى الصين يعد فنانا ، وأستاذا ، ولا يقل فى المرتبة عن أستاذ فى المعمار ، أو أستاذ فى النحت ، أو أستاذ فى الأدب ، ولايزال الرجل فى الصين متقدما على المرأة فى الطهى وفنونه ، برغم أن المرأة متساوية مع الرجل مساواة تامة فى كل شىء ، متساوية معه فى الأجر ، وفى العمل ، ولكنها لم تصل إلى مرتبته فى فن الطهى ..

سألت سيدة صينية عن الطعام فى شنغهاى :
ـ أيهما يجيد الطهى أحسن من الآخر .. المرأة أم الرجل ..؟
ـ الرجل مع الأسف ..
وأردفت وهى تبتسم :
ـ وما تأكله الآن من لذيذ الطعام هو من صنع الرجل ، والمرأة كما ترى عملها مقصور على تقديم الصحون ..

وإلى جانب المطاعم توجد مشارب الشاى بكثرة ، والصينيون يشربون الشاى من غير سكر ، ويشربونه بكثرة ،الأسود والأصفر منه ..

ولكثرة شربهم الشاى لايشربون الماء على الطعام إطلاقا .. وإذا طلبت ماء يأتون به مغليا يتصاعد منه البخار ..

ويشربون على الطعام شرابهم الوطنى ، وهو مركز شديد ، كما يشربون النبيذ والجعة والمياه الغازية ، وكل هذه الأشياء من صنع بلادهم ، لا يأتون بشىء من الخارج على الاطلاق ..

***

وفى شوارع شنغهاى الكبرى ، كل المحال التجارية ، والمتاجر الكبرى ، ومحال الحكومة الكبرى رقم 1 ورقم 2 ورقم 3

وفى أيام الآحاد ، وهى أيام العطلة للعمال تجد هذه المحال مزدحمة وتتحرك فيها بصعوبة ..

والأسعار موحدة وثابتة فى كل شنغهاى ، المحال الصغيرة كالمحال الكبيرة ، وكل شىء يباع بالفاتورة حتى قطعة الصابون ..

وتستقبلك البائعة بالابتسام ، والرقة المذهلة ، وإذا اخترت شيئا تحرك " البلى " لتحسب الثمن ، ثم تبدأ فى كتابة الفاتورة ببطء وتأن ، وتعطيها ورقة مالية كبيرة ، فتأخذ الثمن وترد لك الباقى ، وهى تنحنى وتبتسم ، وتردد كلمة الشكر ..

وتلف البضاعة عادة فى ورقة خشنة ..

ومعظم العمال فى المتاجر الكبرى من الفتيات ، وهن يرتدين زيا موحدا ، وقليل منهن يعرف لغة أجنبية ، ولكنه تستطيع أن تكتب لك الثمن بالحروف اللاتينية ..

والمحال تفتح من التاسعة صباحا إلى التاسعة مساء دون توقف .. والمحال الصغيرة تستمر ساهرة إلى نصف الليل ..

وفى شنغهاى المفارش التى ليس لها نظير فى العالم ، وأحسن " بلوزة " تلبسها حسناء ، وأعظم نسيج من الحرير الطبيعى ، وأدق التحف والتماثيل الصغيرة والكبيرة ..

وهذه الأشياء كلها تصدر إلى الخارج ، لتأتى لهم بالعملات الأجنبية ..

***

والمرأة فى شنغهاى تشتغل فى المتاجر والفنادق ، والمطاعم ، وهى سريعة الحركة نشطة وثوبها نظيف وفى وجهها الصحة .. وهى ليست جميلة عادة ، ولكنها مشرقة باسمة ، والرقة أبرز صفاتها ..

وعندما ترى سربا منهن تعطيهن جميعا سنا واحدة ، وغالبا سن العشرين ، وأنت لاتستطيع قط أن تقدر سن المرأة الحقيقى ..
================================
نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 324 فى 10/3/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " مدينة الأحلام " ـ الدار القومية للطباعة والنشر ط 1963


ليست هناك تعليقات: