السبت، ١ ديسمبر ٢٠٠٧

تانكنج مدينة الأمطار وزهرة اللوتس

تانكنج مدينة الأمطار وزهرة اللوتس
ــــــــــــــــــــــــ

كانت تانكنج عاصمة الصين فى زمن الاحتلال اليابانى ، وهى من مدن الصين العريقة .. والجائل فيها يشعر بهذه العراقة ، ويشعر بأنها تستحق أن تكون عاصمة حقا فهى أجمل من بكين وأكثر اشراقا وأناقة ، وهى مثل هانشاو .. تتمتع بالجمال ، والبحيرات ، والزهور ..

إن زهور اللوتس تنمو فى كل مكان وتغطى بحيرة شوان وهو كلها حتى سميت بحيرة اللوتس ، وأصبح منظرها من أجمل المناظر وأبهجها للنفس ، وشوارع المدينة منسقة تنسيقا هندسيا رائعا .. ومن ميدان " سن شياكو " المتناهى فى الاتساع تتفرع شوارع هان شنج رود ، وشنج شان رود ، وشنج كيانج رود ، وهذه الشوارع الرئيسية توصلك إلى كل أنحاء المدينة ..

إن المدينة مقامة على مساحة قدرها 778 كيلو متر مربع ويسكنها مليون وأربعمائة ألف نسمة ، يقيمون فى منازل من ثلاثة وأربعة طوابق ، منازل سقوفها محدودبة وعليها الطابع الصينى الأصيل ..

ونوافذها كلها زجاجية ، ولا يوجد " شيش " من الخشب خارج الزجاج ، وإنما فى النافذة شباكان من الزجاج ، كل واحد وراء الآخر ، ويفتحان ويغلقان من الداخل ، وخلف ذلك يوجد الستار ، ولك أن تنشر الستار أو تطويه إذا شئت أن تتطلع إلى المطر ..

أمطار كأفواه القرب
ـــــــــــــ
إن الأمطار فى تانكنج تتدفق كأفواه القرب ، وتباغتك فى كل لحظة ، فإذا لم تكن معك مظلة ، غرقت تحت سيل من الماء لاتدرى متى ينقطع ، فقد يستمر ساعات ، والمدينة مستعدة لهذه الأمطار ببالوعاتها وشوارعها المرصوفة ، وبالمظلات التى تراها موضوعة فى مدخل الأبواب ..

فتتناول المظلة وتخرج إلى الطريق ، وعندما تعود من عملك تضعها فى مكانها ، وبغير هذه المظلة لاتستطيع أن تتحرك خطوة ..

والأشجار الكثيرة المغروسة على جانبى الطريق لاتقيك المطر ، وكذلك الحدائق وما أكثرها وأنضرها فى المدينة ..

إن الناس فى تانكنج يرتدون زيا شعبيا واحدا ويركبون السيارات العمومية وهى من صنع أيديهم ، وينتجون الصناعات الكيماوية التى تتدفق على كل مدن الصين ، والمصنوعات اليدوية الدقيقة التى تمتاز بالبراعة والدقة ويتميزون بالبشاشة والوداعة ، وخلق الرجل الدءوب الذى يعمل فى صمت وينتج شيئا تفخر به بلاده ..

وأنت لاتشعر فى هذه المدينة بالزحام الذى تراه فى شنغهاى ، ولا بالغبار الذى يثور فى وجهك وأنت تقترب بالسيارة من بكين ، فتانكنج مدينة تمتص حدائقها وأزهارها كل غبار ..

الفلاح الصينى والأرز
ـــــــــــــــ
والمدينة التى يحيط بها سور ضخم ، كأنه السور العظيم ، مركز حيوى للثقافة ..

فيها أوبرا ، تضارع أوبرا بكين ، وبها مكتبة ضخمة وعشرة معاهد عالية وجامعة من أعرق جامعات الصين ، وبها 79 مدرسة متوسطة وثانوية وأكثر من 315 مدرسة ابتدائية ..

ولو خرجت من المدينة إلى ضواحيها ترى الأرض كلها مخضرة ، وترى أشجار النبو كثيرة ، وتعرف أن الزراعة الأساسية فى هذه المنطقة هى الأرز ، والقمح ..

فإذا اقتربت من الفلاحين تراهم يستعملون الطريقة المصرية نفسها ، فى ضم المحصول وفى التذرية ، ومعهم المذراة نفسها .. والأدوات اليدوية نفسها ، إن الفلاح الصينى لايزال يعيش فى عالمه القديم ، والتطور حدث فقط فى المراكز التعاونية ..

ولكن الفلاح الصينى الذى يستعمل يديه تلازمه المرأة كظله ، لاتفارقه أبدا فى حقل أو بيت ..

المرأة والرجل
ــــــــــــ
إن المثل الصينى القديم يقول :
" إن عشرة نجوم لاتعطى ضوء القمر " .. يعنى أن عشرة نسوة لايساوين رجلا واحدا ، والظاهر أن هذا المثل لايزال ساريا إلى الآن ، فى الصين ، برغم كل ما حدث فى حياتها من تطور ..

فالحفلات الرسمية فى تانكنج وفى كل مدن الصين لم يكن يحضرها من النساء إلا ممثلات الأوبرا ، وممثلات السينما ..

ولم تشاهد غير هؤلاء ، والظاهر أن المرأة الصينية لاتدعى إلى الحفلات العامة ، ولاتزال هذه القاهدة سارية قبل الثورة ، وبعد الثورة ..

والمرأة فى الصين القديمة كانت تحمل إلى منزل زوجها فى محفة ، كما تحمل عندنا فى الريف على جمل ، وهناك ترى زوجها لأول مرة ..

وكان الزوج يستطيع أن يتزوج منهن ما يشاء ، حتى مائة ، ويتخذ منهن سرارى كما يحب ، ولقد أعتقت المرأة من كل هذا بعد قانون الزواج الجديد ، وأصبح الرجل لايستطيع أن يتزوج أكثر من واحدة ، وأصبحت المرأة مساوية للرجل فى كل شىء ..
ولكنها لاتزال حتى الآن لاتدعى إلى الحفلات العامة ..

وأشهد أن ممثلة الأوبرا التى جلست تتعشى معنا فى حفلة العشاء فى فندق تانكنج كانت ثقافتها تعدل ثقافة عشرين رجلا ..

وكانت قد مثلت على المسرح فى الليلة الماضية دور غلام عاشق ، فلما رأيتها أمامى هذه الليلة ذهلت من براعة المكياج الذى وصل إلى الحنجرة ..
فقد كان صوتها العادى أخشن من صوتها على المسرح ..

ولما حدثتها عن عجبى ضحكت وسألتنى :
ـ أهذه أول مرة تزور فيها الصين ..؟
ـ نعم هذه أول مرة ..
ـ لابد أن تزورنا مرات ، لتعرفنا ..

وسألتها بعد أن حدثتنى عن زوجها :
ـ أعندك أطفال ..؟
فضمت ذراعيها على صدرها وضغطت ..

وقد فهمت من هذه الحركة حنان الأمومة الدافق ، الذى يفوق كل ما يعبر عنه اللسان ..

وسألتنى :
ـ ما الذى زرته فى المدينة ..؟
ـ فير منج ، والمكتبة ، والجامعة ، وبيت الشباب ، وقصر العمال الثقافى ، وسور تانكنج وبحيرة شوان .. و .. و ..
ـ ورأيت زهور اللوتس ..؟
ـ إنها أجمل الأشياء طرا ..
ـ وقبر صن يات صن ..؟
ـ لم أره بعد ..
ـ لابد أن تراه ، لأنك سترى أعظم قبر فى العالم ..

***

قبر صن يات صن
ـــــــــــــ
وكان كلامها صدقا ، إنه أعظم قبر فى العالم ، إن الرجل الذى أنشأ الصين الحديثة ، جعلوا له أعظم لحد لايمكن أن يصممه عقل بشرى .. إن قبور العظماء كثيرة فى العالم ، والأضرحة لاعداد لها وقد تكون من الرخام أو المرمر ، أو الجرانيت أو من الذهب المطعم بالأحجار الكريمة قد تكون من هذا ومثله ..

ولكن قبر صن يات صن شىء غير هذا كله وليست فخامته لأنه من المرمر أو الذهب ، وإنما فخامته فى موقعه وفى اختيار المكان ..

إنك تمر بالقبور ، ولاتحس بوجودها ولا تراها .. ولكن هذا القبر يجعلك تحس به وتراه ..

إنه مقام على ربوة عالية ، وسط مناظر طبيعية خلابة .. مناظر عديمة النظير .. وأن شجر النبو المتناهى فى الجمال يزهو على الجانبين ..

ولكى تصل إلى الضريح تصعد 392 سلما ..
وعرض السلم مائة متر ..
والقبر مقام على ارتفاع قدره 158 مترا فوق مستوى الماء ..
ولكى تصل إليه تصعد منحدرا من السلالم الرخامية طوله 356 مترا ..
وبناية الضريح غاية البساطة ، وتجد فى الداخل تمثالا من الرخام بحجم صن يات صن الطبيعى ..
وقد بدىء فى بناء القبر سنة 1926 وتم البناء فى 1929 وفيه يرقد الرجل ، الذى نادى بالمساواة والعدل للجميع ..
والذى كان يقول كل الأرض التى تحت الشمس للشعب ..

النظام فى الفندق
ـــــــــــــــ
لماذا تقدمت الصين ونهضت ، وتخلصت من الأفيون ، ومن الدعارة ، ومن البلهارسيا ، ومن الذباب ، ومن القذارة ، ومن الغبار ، الذى يتطاير ، فى وجوه الركاب فى مركبات السكك الحديدية ..؟

ولماذا تتطور بسرعة ..؟ والزائر فى سنة 1958 يرى فيها شيئا جديدا غير ما شاهده فى سنة 1957 وسنة 1956 إنها قضت على هذه الأشياء كلها بالعلم والحزم والنظام ..

إن المقيم فى فنادق الصين يعجب للنظام الذى لاشبيه له برغم كثرة النزلاء وكثرة الوفود من مختلف أنحاء العالم احتفالا بثورة أول اكتوبر ..

فإن آلاف الحقائب تنقل من بكين إلى شنغهاى ، وإلى كانتون ، وإلى تانكنج دون أن يحدث خطأ واحد ، ودون أن يكون للمسافر أى جهد يبذله فى نقل حقائبه من مدينة إلى مدينة ومن فندق إلى فندق ..

يكفى أن يعرفوا أنك مسافر صباحا بالقطار ، أو بالطائرة ، وهم يتولون عنك كل شىء فى دقة عديمة النظير ..

وفندق تانكنج يتمتع بالهدوء والجمال الساحر ، وبفتيات مكتب السياحة اللواتى يتميزن بالجمال والرقة والثقافة العالمية ..

وكانت مرافقتى معيدة فى الجامعة ، وقد تطوعت لهذا العمل الجليل كمترجمة عندما كثرت الوفود على المدينة ، وأصبح عدد الذين يعرفون الإنجليزية لايكفى الزوار .. إنها أنيقة متأنقة فى العشرين من عمرها ، وهى تمثل فتاة الصين الحديثة ، بكل ما فيها من صحة وجمال وثقافة ..

إنك تترك تانكنج ، وأنت تشعر بالأسف ، لأن المدينة جميلة وساحرة حقا ، ولا يشبع من حسنها زائر .. وفى ليلة السفر تضع حقائبك كلها على باب غرفتك من الخارج ، وتبقى معك فقط الحقيبة الصغيرة التى تضع فيها دفتر مذكراتك وأدوات الحلاقة ..

وإذا فتحت الباب فى الصباح ونظرت إلى مكان الحقائب تجده خاليا ، ولاترى لها أثرا فى بهو الفندق أو فى السيارة التى توصلك إلى المطار ..

وعندما تصل كاسكاو وتجلس فى بهو الفندق الخارجى تعطى بطاقة صغيرة عليها رقم الغرفة التى حجزت لك ..

وعندما تصعد إليها تجد حقائبك كلها موضوعة بعناية فى داخل " الدولاب " المخصص للحقائب ..

ولا يأخذك العجب من هذا النظام الدقيق ، لأنك ألفته فى الصين ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل المصرية ـ العدد 356 فى 20/10/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " مدينة الأحلام " ـ الدار القومية للطباعة والنشر ط 1963
=================================

نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 371 فى 2/2/1959
هنكاو أجمل مدينة على النهر
ــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات: