السبت، ١ ديسمبر ٢٠٠٧

هنكاو أجمل مدينة على النهر

نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 371 فى 2/2/1959

هنكاو أجمل مدينة على النهر
ــــــــــــــــــــــــــــــ

هنكاو مدينة جميلة على نهر يانجسى أطول أنهار الصين ، وعندما تدخلها تحس بأنك تقترب من الريف ، ومن الأرض العذراء فى وادى العمالقة ..

إن أهلها بسطاء كرماء يتجمعون حول السيارة التى تدخل مدينتهم ، كما يتجمع أبناء الريف عندنا حول أية عربة تدخل القرية وهم فى لباس شبه موحد ، ومن كل الأعمار ، ومن الجنسين . وقد شاهدوا عشرات السيارات من قبل ، ولكنهم مع هذا كله ينظرون إليك فى فضول لاتعرف سببه ، وعلى وجوههم الابتسام والوداعة ..

وإذا دخلت المتجر انتظروك على الباب حتى تخرج إليهم ، إنهم فى رداء أزرق ملون من السترة والبنطلون ، الرجال والنساء ، ولكن النساء منهن لسن فى أناقة سكان شنغهاى ..

إن مدينة هنكاو تضم ثلاث مدن صغيرة جميلة :هانكاو ، أوشان ، يوهانو
وتتمتع بموقع يجل عن الوصف ، إنها تقع على النهر ، وعلى البحيرة الشرقية وعلى تلال من الزمرد ، ويصلها كوبرى يانجسى ، وهو أعظم تصميم هندسى فى الصين الحديثة ..

والمدينة طرازها أوربى خالص ، لاتفرقها عن أية مدينة فى وسط أوربا أو فى شرقها ، والمنازل من أربعة وخمسة طوابق ، وسقوفها محدودبة ، وتطل منها المداخن ..

ولأول مرة ترى الشرفات الخارجة فى مدن الصين ، الشرفات المكشوفة لأن جو المدينة ليس باردا ، وفى خلال شهر نوفمبر تستطيع أن تنام ونوافذ الحجرة مفتوحة .

إن الجو فى الخريف لايختلف عن جو القاهرة فى نوفمبر ، فقد يتساقط المطر رذاذا متصلا ثم ينقطع ، والسماء الصافية فى الصباح ما تلبث أن تتلبد بالغيوم ، وتظل مغشاة بمثل البرقع على وجه الحسناء الضاحكة ، وتتساقط بالطل فى هذا الجو الشعرى المنعش ثم ينقشع ..

ولكن المطر لا تأثير له البته على عمل الناس ، وحركة البيع فى المتاجر فإنها تبلغ أشدها فى الساعات الأخيرة من النهار عندما يفرغ العمال من عملهم اليومى ..

وهانكو ، وما يجاورها من مدن يشقها نهر يانجسى وهو أطول أنهار الصين طوله 500 ,5 كيلو متر ، وعرضه أكثر من 1760 مترا يشقها فى رفق ، وتتهادى مراكبه الكبيرة على الضفتين ..

والمدينة تطل على البحيرة الشرقية وتحف بها التلال الخضراء والهضاب المكسوة بالعشب ، وشجر الكمثرى والورد ، فأينما نظرت وجدت الجمال ، فتسيح فيه وتتأمل ، كما يتأمل الشعراء والفنانون ..

ومن خلال هذه الوقفة الحالمة تعرف أنك فى مدينة بها أجمل كلية للفنون ..

كلية الفنون
ــــــــــــــــــــــ
فى هذه الكلية عدد 70 طالبا فقط فى الأقسام العالية ، دخلوها بعد إتمام الدراسة المتوسطة ، ويتلقون العلم على عدد 74 أستاذا وأستاذة ، وبالكلية 180 طالبا فى الأقسام المتوسطة ، ويدخل الطالب هذه الكلية بعد تدقيق واختبار ، لأن الدولة ترغب فى اخراج فنانين حقا ، وتختار رغبة الطالب أولا ، ثم رغبة الدولة ..
ومدة الدراسة بالكلية خمس سنوات ..
ويقبل التلاميذ من سن 17 إلى 23 سنة ..
ويجب أن يتعلم الطلبة أنهم يعملون للشعب ، ويجب الاحتفاظ بالتقاليد الصينية القديمة ، ثم الاستفادة من فن الغرب ..

والدراسة 5 ساعات فى اليوم ، والمدرس يعطى 20 ساعة فى الأسبوع ..

وهؤلاء الطلبة جميعا داخلية ، يتلقون العلم فى المدرسة ، ويخرجون إلى الطبيعة وقد حبت الطبيعة مدينتهم بأجمل المناظر الطبيعية على الاطلاق ..

وقد ظهر هذا واضحا على فنهم ومفروشاتهم ، وهم يتميزون بالوضوح وبروز الشخصية ، وعمق التعبير .. وتراهم يرسمون على البحيرة ، وعلى النهر ، وإذا عبرت النهر ترى كوبرى يوهان ..

كوبرى يوهان
ـــــــــــــــــــــــــــ
إن كوبرى يوهان هو أعظم بناية حديثة فى الصين قاطبة ، إنه كوبرى على ارتفاع عمارة من عشرين طابقا ، وتصور هذا الجلال وطوله 1760 مترا ، وارتفاعه عن قاع الماء 80 مترا ، وهو قائم على ثمانية بغال كبيرة ، وعرض الكوبرى من جانبه 18 مترا ، وهو مبنى من طابقين ، الطابق العلوى للعربات والسيارات والمشاة ، والسفلى للقطارات المحملة بالبضائع ، ويحتمل قطارين فى وقت واحد ذاهب ، وراجع ، بكل ما فيهما من حمولة ..

ويمر على الكوبرى يوميا من 80 ألف إلى مائة ألف شخص ، ولارتفاعة الشاهق تمر من تحته السفن بسهولة دون أن يكون فى حاجة لأن يفتح ويغلق ، والقطر تمر عليه بعدل كل 20 دقيقة قطار ..

وقد بدىء فى بناء الكوبرى فى سبتمبر سنة 1955 ، وتم فى سبتمبر 1957 .. وفتح فى 15 من سبتمبر سنة 1957 للمرور ..

وتم البناء قبل الميعاد المقرر بسنة كاملة ، وهم فى زهو لهذا النصر ..

وقد تكلف الكوبرى 000, 400، 138 ايوان " والايوان يساوى 14 قرشا " واشتغل فى البناء 12000 عامل ، وقد عاونهم الخبراء الروس فى التصميم والبناء معاونة صادقة ..

وفى الكوبرى 4 مساكن كبيرة بالمصاعد : اثنان فى كل جانب ..

وهذا العمل العظيم محوط بكل رعاية ، وصيانة الكوبرى ونظافته تفوق كل حد ..

وهناك مهندس مقيم فى بنايتة ، بصفة دائمة يقدم لك الشاى فى قاعة فسيحة مؤثثة بأجمل الرياش ، ويشرح لك فى إسهاب بالغ وتفصيل دقيق كل الأشياء الفنية التى تحب أن تعرفها ..

عمل عظيم
ــــــــــــــــــــــ
وهذا الكوبرى يعرف موقعه الآن وتاريخه كل فرد فى الصين ، كما يعرف المصريون موقع الهرم ..

وعندما وزع مهندس الكوبرى علينا الشارة التى تحمل رسمه ، ووضعتها على صدرى ، كان كل من يراها من الصينيين فى أية مدينة أخرى يعرفها على الفور ويقول فرحا :
ـ آه كوبرى يوهان ..

وفى مدينة هونج كونج ـ المدينة التى لا يزال يحتلها الإنجليز ـ كان الصينيون فى المحال يقولون لى بمجرد أن أدخل :
ـ أوه .. أنت قادم من يوهان ، ورأيت الكوبرى ..
ـ وإذا اخترت شيئا ، وسألت عن ثمنه ، قالوا لى :
إنه بعشرين دولارا ، ولكن لأنك قادم من يوهان ، ومن أمنا الصين سنجعله بسبعة عشر فقط ..

مبنى جمعية الصداقة الصينية الروسية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفى هانكاو بناء فخم ، إنه مبنى جمعية الصداقة الصينية الروسية وقد بلغ الحد فى الروعة ، ومن أعظم البنايات الحديثة جمالا وفخامة ، وبه قاعة فسيحة للرقص تسع أكثر من ثلاثة آلاف راقص ـ زوجين اثنين ـ .

وفى قاعة المسرح بالمبنى شاهدنا رقصا شعبيا ، وفرقة أكروبات وألعابا بهلوانية رائعة من فرق صينية ..

وكانوا يحتفلون بمرور 40 عاما على ثورة روسيا الصديقة ، ويحيون هذه الثورة بالأغانى والأناشيد الصينية ، ووقف أكثر من عشرين رجلا وامرأة من الروس على خشبة المسرح يردون على هذه التحية ، بنشيد مماثل ..

وعاد الروس إلى مكانهم فى الصالة ، وكانوا يجلسوننا معهم فى الصف الأول ..

ولاحظت أن الروسيات لايتأنقن فى الزى ، ولا يعنين بتجميل الوجه ، ومع أنهن سائحات وفى رحلة إلى بلد أجنبى ومن بينهن راقصات من أشهر فرق الباليه فى سيبيريا ، فكن يرتدين فساتين من كل الألوان ومنها المشجر ..

وإذا جلست بجوارك واحدة منهن فإنك تحس بالرغبة فى محادثتها كما تحس بهذه الرغبة وأنت جالس بجوار الصينية ..

قاعة الرقص الكبرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبعد التمثيل دخلنا قاعة الرقص الكبرى ، ورأيت الفتيات الصينيات الشابات فى أجسام متقاربة ويخيل إليك أنهن جميعا فى سن واحدة ، وعلى وجوههن الصحة والنضارة يرقصن كأرشق ما ترقص النساء وهن يرتدين الزى الشعبى أو لابسات البنطلون الأزرق والبلوزة السمراء والسنجابية ، كن يراقصن الشبان الرقص الأوربى ، على أنغام الموسيقى الخفيفة الحالمة ..

ولاحظت أنهن جميعا يرقصن هذه الرقصات الأوربية الحديثة فى براعة .. ويرقصن بقلوبهن ، ويرقصن عن شغف ورغبة ..

وتخرج من السهرة شاعرا بالنشوة فإذا مررت على الكوبرى فى الليل رأيت السحر بعينه ..

إن المدينة تتراقص أنوارها على صفحة الماء ، وتنعكس حبات الدر من كل الألوان ، فتتيه فى هذا الجمال ..

والكوبرى نفسه يعكس نورا قويا حالما كأنه القمر تحيط به كل النجوم التى فى السماء ..

فإذا بلغت الفندق رأيت الجنة على الأرض ..

الفندق الجميل :
ــــــــــــــــــــــــــ
إن الفندق فى يوهان تملكه الحكومة ، وأقامته على شط البحيرة الشرقية كأعظم متعة للمسافر ..

إنه من طابق واحد دائرى وصاعد على الربوة ، وشرفاته على الماء مباشرة ، وأنواره تعكس حبات الياقوت والمرجان ، على صفحة البحيرة الساكنة الغدير ..

وفى الحجرة الواسعة المجهزة بفاخر الرياش حمام خاص " لوكس " وباب زجاجى وراءه باب آخر من السلك المضفر ، يفضى بك إلى شرفة طويلة ، تجلس فيها لتتأمل بدائع ما صنع الله ، أو تنزل منها درجات إلى الماء ، لتركب الزورق إلى الشاعر شى ين ، وشى ين مات من 2300 سنة ..

ولكن تمثاله قائم هناك على البحيرة مباشرة وفى فضاء ، على اتساع سبعة كيلو مترات كاملة ، فتأمل أى موقع بين المروج والأزهار والماء ، والبلد الذى يحب الشعر ويخلد الشعراء ، أقام قاعة تخليدا لهذا الشاعر ، فى هذا المكان الفريد ..
وفى هذه القاعة مخطوطاته ، ومؤلفاته ، وتمثاله ..

جامعة يوهان :
ـــــــــــــــــــــــــ
ومن شرفات الفندق الجميلة ترى ربوة تشرق مع شمس الصباح من خلال الضباب الخفيف ، وعلى هذه الربوة العالية تقع الجامعة ..

إن جامعة يوهان جامعة قديمة ، أقيمت على هذه الربوة فى أجمل بقعة فى المدينة ..

وعندما تدخلها تشعر أن الطلبة منصرفون إلى العلم حقا ، ومتفرغون بكليتهم له ..

وفى الجامعة ثلاثة فروع رئيسية للعلوم ، والفنون ، والقانون ، وأحد عشر قسما ..

وبها 530 مدرسا ..
و 3400 طالبا ..
والدراسة بها خمس سنوات ..

والدراسة عملية قبل أن تكون نظرية ، فالطلبة يلحقون بالعمل فى المعامل كما أنهم يذهبون إلى الريف ، واسترعى نظرنا الأماكن المخصصة لاستذكار الطلبة ، فى جمالها ونظامها وإعدادها بكل سبل الراحة ..

ثم ملعب الجامعة الكبير تحفه الأشجار العالية ..

والمكتبة بها أكثر من مليونى كتاب ، وهى بناية مستقلة فخمة ..

وعندما تركنا الجامعة ، وأخذنا نهبط المنحدر بين المروج والأزهار ، تمنيت لو أبقى هناك ساعة أخرى جالسا على العشب الندى بين الأشجار ، وبيدى " فرشاة " أرسم بها بعض هذا الجمال ..
====================================
نشرت بمجلة الجيل المصرية ـ العدد 371 فى 2/2/1959
وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " مدينة الأحلام " سنة 1963
====================================






ليست هناك تعليقات: