السبت، ١ ديسمبر ٢٠٠٧

هانتشو مدينة البحيرات وزهرة اللوتس




هانتشو مدينة البحيرات التى تكنسها النساء

" إن المثل الصينى القديم يقول :

" الجنة فى السماء ، وهانتشو على الأرض "

وعندما تدخل مدينة هانتشو تحس أن هذا الكلام صادق ولا مبالغة فيه ولا تهويل ، لأن الصينيين لايبالغون ولايحسنون حتى وسائل الدعاية عن أنفسهم .

ولو كانت هذه المدينة فى أوربا لتدفقت عليها الدولارات الأمريكية ، والفرنكات السويسرية والفرنسية والجنيهات الإنجليـزية ، والماركات الألمانيـة ، ولأصبحت المدينة التى يقصدها كل سائح فى العالم ، ولماتت بحيرات سويسرا ، ومتعرجات كابرى ، وسهول النمسا ، وسواحل الريفييرا ، ولكنها مدينة صينية معزولة ، كالحسناء الجميلة التى أبعدوهـا عن كل العشاق .

إن جو المدينة ربيعى ممتع ، ومناخها نادر المثال ، وسكانها 676 ألف نسمة يسكنون على البحيرة الحالمة فى مساحة قدرها 223 كيلو متر مربع ، ولا تحس لهم صوتا ولا تسمع لهم حسا فى ليل أو نهار ، وأشجار الخوخ ، والشاى ، والتفاح تكسو التلال ، والهضاب .

والباجودا ، والنمر الصخرى ، وجزيرة الشاى والمنظار بالأقمار الثلاثة ، وتماثيل بوذا وحوارييه من خالص الذهب ، وعلى ارتفاع 22 مترا تصبح كل هذه الأشياء لاقيمة لها ، إذا رأيت البحيرة ، ومن بعدها المصحة .

إن البحيرة على اتساع لاتبلغه العين ومن ورائها التـلال المخضرة الساكنة ، وفى وسطها الجزيرة الصغيرة الخضراء ، والبحيرة مع كل هذا الاتساع ليس لها عمق . إن المجداف الصغير فى الزورق يبلغ قاعها فى أى مكان ، وقد تكونت هذه البحيرة من الروافد الصغيرة من ثلاثة آلاف سنة ، ولسحرها عاش بين ربوعها معظم شعراء الصين . إن الزوارق الصغيرة تتهادى فى عرضها ، كما تتهادى الأحلام الذهبية فى رأس الفنان الملهم ، وفى كل زورق فتاة ، وهذه الفتاة هى الملاحة الحسناء ، ترتدى قبعة الخوص الكبيرة ، والبنطلون الأزرق ، وهى تستعمل الدفة كمجداف يتحرك فى حركة استعراضية من الخلف ، كما يتحرك الرقاص فى مؤخرة السفينة فيسير الزورق الحالم فى بحيرة ساكنة كالغدير ، إنها وحدها التى تشق بك صدر الماء فى رفق وأناة .

فإذا كنت تريد مزيدا من السرعة ، أو تريد أن تمرن عضلاتك ، أعطتك الفتاة مجدافا جانبيا صغيرا وجلست تساعدها ، وعيناك على أسنانها اللؤلؤية ، وشعرها الأسود الشديد اللمعان .

إن نســاء هانتشو من أجمل نساء الصين ، والشاعر bai chu yi عاش يتغزل فى غادة نادرة الجمال من هانتشو ، ويصف البحيرة فى مثل جمالها ، حتى تحولت الأشعار إلى أساطير .

مدينة الزوارق من غير عشاق

ولكن غادة الأساطير القديمة ، والزوارق الحالمة ، تتهادى فى البحيرة الآن من غير أحلام ولا عشاق . إن طابع الجد يكسو المدينة ، وقل من يخرج فيها إلى النـزهة ، وفيما عدا الرحلات المدرسية فى صباح الآحاد تموت المدينة الجميلة وتلفظ أنفاسها بعد أن تستيقظ بساعة ، وتصبح البحيرة الراكدة فى وهج الشمس كسراب فى الصحراء ، والزوارق الصغيرة الراسية على الساحل ، كأسراب الحدأة وهى تحط على الأرض كاسرة جناحيها .

إن الفندق الجميل الأنيق الذى أقامته الحكومة على شط البحيرة لم يكن فيه من النـزلاء أكثر من أربعين شخصا ، نصفهم هو الذى يتنـزه فى البحيرة فى ساعات الغروب وتحت ضوء القمر ، والسيارات المخصصة للفندق هى السيارات الوحيدة التى تجول فى المدينة .

إن المدينة كذراعى رجل عملاق مفتوحتين إلى أقصاهما ، ووسط الذراعين ترقد البحيرة كما ترقد الحسناء مسترخية فى أسى ظاهر ، ووراء ظهر الرجل تقوم التلال المكسوة بالعشب ويقوم شجر الخوخ وشجر الكمثرى وشجر التفاح وشجر الشاى والأزهار من كل الألوان وكل الأنواع ، تكسو الأرض وتهزها .

وبين كل هذه الأشجار الكثيفة وهذه الدغل والعرائش لايمكن بأية حال أن تعثر على عاشقين يتناجيان ، وتلتقى شفاهما فى قبلة ، فى ليل أو نهار ، لايمكن أن ترى هذا المنظر أبدا .يمكن أن ترى حبيبين يمشيان متهاديين وسط الأشجار والفتى يمسك براحة الفتاة ، وبينهما فاصل مقدار ذراع كامل .

***

إنك تستيقظ فى الصباح على شقشقة العصافير الصغيرة على الشجر ، فإذا فتحـت عينيك ونظرت من شرفة الفندق إلى البحيرة ، ترى منظرا ساحرا ، البحيرة الساكنة ، ومن ورائها التلال السوداء ، والكناسات فى لباس أزرق وبيدهن المكانس يكنسن الشوارع ، ويجمعن الورق الساقط من الشجر .

إن المدينة نظيفة ولو تركت أسبوعا من غير كنس لما جمع هؤلاء النسوة غير ورق الشجر . إن أحدا لايأكل فى الطريق ، ولايمكن إن يلقى أى شىء على الأرض ،وعلى كثرة الحدائق والبساتين فى المدينة لايمكن أن تعثر على وردة مقطوفة ، أو أى شىء أتلفته الأيدى ، أو سحقته الأرجل تحتها . والممتلكات العامة من المواد الخمس التى تلقن فى المدارس ويتعلمها الشعب كله : حب الوطن .. حب الشعب .. حب العلم .. حب الممتلكات العامة .. حب العمل .

مدينة الحرير

وإذا جلت فى المدينة ستراها ككل مدن الصين ، حوانيتها بسيطة لم تبلغ حد الأناقة ، وشوارعها صغيرة ونظيفة وجميعها مرصوفة ، والأشجار الصغيرة والكبيرة مغروسة على الجانبين ، ولا ترى فى الشارع إلا جندى المرور ، والناس جميعا الرجال والنساء فى لباس شعبى واحد ، البنطلون الأزرق والسترة المضمومة الأزرار إلى العنق .

وهانشو مشهورة بالحرير الطبيعى النادر ، إذا ضممت قبضة من النسيج ودعكتها سمعت أزيز النحل ، ومشهورة بالقبعات العريضة ، والمظلات الجميلة ، والأخفاف الحريرية الناعمة .

والفندق الذى نزلنا فيه كان كل شىء فيه من الحرير : اللحاف من الحرير الطبيعى المطرز ، والوسائد من الحرير المشجر ، وعليها رسومات الباجودا ، وقصر الصيف ، وقصر الامبراطور ، والستاير من الحرير الخالص ، والمفارش على الموائد من الحرير .

الحلة السحرية

وعلى ساحل البحيرة قادنى رفيقى الصينى إلى منـزل من طابق واحد ، وهناك استقبلتنا فتاة فى السادسة عشرة من عمرها بابتسامة مشرقة . إن هذا البيت يعتبر بيتا صينيا ، ولم أشاهد فى الصين سوى بيت الكاتب الصينى المشهور " لوسون " فى بكين وبيت الزعيم السياسى الدكـتور " سن يات صن " فى شنغهاى ، وكنت أود أن أشاهد بيت رجـل عادى من عامة الشعب ، وبيت عامل ، أو فلاح ، ولكننى لم أوفق ، ولعلهم يرون إن هذا البيت لم يبلغ المستوى اللائق فى الوقت الحاضر .

إن البيت الصينى الذى فيه الحلة السحرية ، عبارة عن بيت رجل متوسط الحال فى الريف المصرى ، بيت من بيوتنا ، بيت من طابق واحد ، وفى الطابق أربع حجرات كبيرة ، وبين كل حجرتين فناء ، والحجرتان الخارجيتان لاستقبال الضيوف ، والداخليتان لأهل البيت مع دورة المياه ، وفى البيت الكراسى نفسها المغطاة بالجوت ، والحرير المشجر فى قاعة الجلوس ، السرير الخشبى الكبير نفسه ، والدولاب الكبير فى حجرة النوم ، ولكن الصينى يعتنى بالستائر الحريرية والمفارش على المناضد ، وعلى الوسائد ، ويعتنى بالتماثيل : تمثال بوذا ، ويعتنى بالأوانى الخزفية .

وبعد أن قدمت لنا الفتاة الشاى الصينى ، فى الأكواب الصينية الكبيرة من غير سكر ، وقفت على حلة ممتلئة إلى حافتها بالماء ، وألقت فى هذه الحلة كل ما معها وما فى جيوب الواقفين من قطع فضية ، وبرونزية ، فلم تسقط من الحلة قطرة واحدة على الأرض ، ولم يزد الماء فيها بمقدار ملليمتر واحد .

ثم حركت يديها على أطراف الحلة بحركة سريعة ، فخرج منها نغم موسيقى عذب ، وأصبح الماء يلف كالدوامة ، ثم ضربت على الحلة بيديها ضربا آخر ، فارتفع الماء من الوسط أكثر من ربع متر ، وبقى كما هو فى الجوانب ، ولم يســقط من الماء فى خلال هذه الحركة أى شىء على الأرض .

وعندما انتهى عرض الفتاة السحرى أخرجت إيوانا من جيبى لأعطيه لها كمنحة ، ولكنها ردته ، وصافحت يدى الممتدة اليها بالنقود فى حرارة ، ولما كررت المحاولة ، قال رفيقى الصينى : إن أى الحـاح من جانبى سيقابل بالرفض ، لأن الفتاة ترفض البقشيش على طول الخط .

شجرة الشاى والباجودا :

وخرجنا من عند الفتاة لنجول بين الأحراج ، إن الأرض التى أسير عليها الآن مغطاة كلها بشجر الشاى ، وأنا فلاح .

وعندما أرى الزرع ينتفض قلبى وتهتز كل مشاعرى ، إن شجرة الشاى لاتختلف فى شكلها عن شجرة الطماطم التى نزرعها فى بلادنا ، إنها فقط أكبر قليلا ، وأكثر أوراقا ، وهى تنمو فى كل مكان تحت ماء الأمطار ، والصينى يحب الشاى ، ويشربه مرات عدة فى اليوم ، ويشربه من غير سكر ، ولايغلى أوراقه فى مغلاة ، كما نفعل فى المقاهى عندنا ، بل يضع ورق الشاى فى الأكواب ، ويصب عليه الماء المغلى .

وبعد أن شربنا الشاى قرب معبد من معابد بوذا ، صعدنا إلى الباجودا وكانت من 13 طابقا وبها 226 سلما .

والباجودا عبارة عن بناية تشبه المئذنة عندنا ، ولكنها أوسع والسلم من الداخل دائما ، وهى تبنى وسط الأحراج ، وعلى ساحل الماء ، ولم يعرف أحد ممن سألناهم الغرض الحقيقى من بنائها .

ولما وصلنا إلى الدور الأخير علمنا أنها بنيت منذ 1163 سنة .

ونزلنا من الباجودا وركبنا السيارات إلى مصحة العمال ، وبلغناها بعد ثلث ساعة إنها مصحة على ربوة عالية تطل على البحيرة ، ومن حولها الأشجار والورود ، وأختير الموضع فى مكان هادىء ساكن بعيد عن المرور وعن كل حركة تهز أعصاب المرضى ، ولقد بنيت المصحة فى سنة 1954 وتم بناؤها فى 250 يوما على أحدث ما تبنى المصحات .

إن الصينى يفخر بهذه المصحة ، وفى سجل زيارتها توقيعات كبار الزوار من أشهر أطباء العالم ، إنها تعالج ضغط الدم ، وأمراض الأعصاب والعلاج بالكهرباء والتنويم المغناطيسى ، وبالشمع ، وبالماء البارد ، والبخار .

والبناية مرتفعة 1400 متر من سطح البحر ، والجو صحى جاف فى أشد أيام الشتاء برودة ، وبها مسرح كبير على استعداد كامل ومطعم يعد من أجمل وأفخم ما وقعت عليه العين .

وهى معدة على أن يكون فى كل غرفة ثلاثة من المرضى وبها 60 ممرضة فى جمال الملائكة . والمقرر لإقامة المريض شهران ، وبعدها يقرر الطبيب الحـالة .

ونقابات العمال تتكفل بمصروفات العلاج فى هذه المصحة .

والمريض يدفع 45 سنتا فى اليوم للطعام ( حوالى سبعة قروش ) والحكومة تتكفل بباقى نفقات الأكل .

والعلاج بالشمع وبالماء ، يعد من أحدث ما وصل اليه الطب الحديث فى علاج الأعصاب .

والظاهرة البارزة فى المصحة هى نظافتها المطلقة وأناقتها وفخامتها ، وجمال موقعها ، ثم العناية الزائدة بالمرضى حتى أنهم كانوا يحسون صوت أقدامنا ونحن نجول بينهم .

وأجمل ما فى المصحة أن المرضى هم الذين يعزفون الموسيقى ويقيمون الحفلات الراقصة وهم الذين يؤلفون الروايات المسرحية ويخرجونها ويمثلونها .

***

وبعد أن نزلنا من المصحة بالسيارة واقتربنا من البحيرة ، أبديت رغبتى لمرافقى الصينى فى أن نركب زورقا فى ساعة الغروب ، وحقق لى هذه الرغبة .

ولما حركت الملاحة الزورق وأصبحنا فى وسط الماء طلع القمر ، فنظرت إلى الفتاة ، ولاحظت أنها جميلة جدا ، فقلت لمرافقى بالإنجليزية ليترجم لها :
ـ قل لها إنها أجمل من رأيت من النساء فى الصين ..
فابتسم وقال وهو ينظر اليها ..
ـ أنا لا أستطيع أن أقول لها هذا الكلام ..
ـ لماذا ؟ إن هذا إطراء عادى ..
ـ لا إنه غزل ، وليس من عادتنا إن نتغزل أمام الناس ..

ولاحظت أن الفتاة أخذت تحرك المجداف برفق ، لتحاول أن تفهم ما يدور بيننا لأنها عرفت أن الكلام يدور حولها
وقلت له أخيرا ..
ـ قل لها إنها ماهرة جدا ، وأبرع ملاحة رأيتها ..
ـ هذا أقوله بكل ارتياح ..
وقال لها هذا الكلام بالصينية ، فابتسمت وشكرتنى ،ولما انتهينا من جولتنا ، تركت الفتاة الزورق وقفزت إلى الشاطىء .

ورأيتها تسرع نحو شاب كان فى انتظارها ، فسألت مرافقى :
ـ هل هو صديقها ؟
ـ لا إنه خطيبها ..
ـ وأين يذهب بها ؟
ـ إنهما غالبا يتنـزهان بعد تعب النهار ..
ـ وهل يذهب بها إلى الهضبة بين الأحراج ؟
ـ إذا كانت لها رغبة فى هذه النـزهة ..
ـ وإلى متى تستمر فترة الخطوبة ؟
ـ ستة شهور أو سنة ..
ـ وفى خلال هذه المدة الطويلة ألا يحدث بينهما ما يحدث بين المتحابين : قبلة عناق ؟
ـ إن القبلة معناها الزواج ..
ـ أفرض أنه قبلها ..
ـ إن هذا لايحدث ..
ـ افرض.. أقول فرضا ..
ـ مادام سيتـزوجها فلا مانع ..
ـ وإذا لم يتـزوجها ؟
ـ إن هذا لايحدث أبدا ..
ـ ما الشىء الذى لايحدث ؟
ـ أن يعد شاب فتاة بالزواج ثم يتركها ، هـذا لايحدث ، هـذا لايحدث ..

وكان يقول هذا الكلام بحماس عجيب ونحن نقترب من الفندق ، وعلى الباب صافحنى كعادته وهو يقول مبتسما :
ـ غدا فى الثامنة صباحا سأنتظرك فى البهو ..

وكنت أضبط ساعتى على وقع أقدامه فى الساحة الخارجية ، المغطاة بأحجار صغيرة ملونة كحبات الزمرد ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حينما عاد محمود البدوى من هذه الرحلة نشر هذا المقال فى مجلة الجيل المصرية تحت عنوان " هانشو مدينة البحيرات " فى 2291958 وأعيد نشرها فى كتاب " مدينة الأحلام " 1963 كما نشر الكاتبان على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى مقتطفات من مقالاته فى مقدمة كتاب " قصص من هونج كونج " لمحمود البدوى الصادر عن مكتبة مصر 2001

ليست هناك تعليقات: